من قصيدة أبي نواس) (:
عـاج الشقي عـلى دارٍ يُسائلها / وعُجـتُ أسأل عـن خمارةِ البلدِ
لا يرقئ الله عيني من بكى حجراً / ولا شفى وجد من يصبو إلى وتدِ
قالوا ذكرت ديار الحي مـن أسد / لا در درُك قـلي مـن بنو أسد
ومـن تميمُ ومـن قيسٌ وإخوتهم / ليس الأعاريب عند الله مـن أحدِ
دع ذا عدمتك، واشربها معتقةً / صفراء تعنِق بين الماء والزبد
كم بين من يشتري خمراً يلذ بها / وبين بـاكٍ عـلى نؤيٍ ومنتضدِ
لو كـان لومُك نصحاً كنتُ أقبله / لكن لومك محمول عـلى الحسدِ
لقد اخترت هذه القصيدة من ديوان أبي نواس من بين عشرات القصائد التي تدور في المعنى نفسه ، فأبو نواس لم يكتفِ بعدم الوقوف على الأطلال فقط، بل هاجم من يقف على الطلل، مفضلاً على ذلك الخمرة التي طالما تغنى وتغزل بها. إن ثورةَ أبي نواس على المقدمة الطللية وبهذه الصراحة المتناهية، والتي يظهر فيها شتمه للعرب وعاداتهم، هي نتاج معتقداته الشعوبية التي تزدري العرب وتحقِّرهم، وترفع من الفرس، كيف لا وهو القائلُ:
فأين البدو من إيوان كسرى / وأين من الميادينِ الزُروبُ( )
ب- ابن المعتز 247- 296 )
"هو عبدالله بن المعتز، الخليفة العباسي، ولد في بغداد ونشأ فيها، بعيداً عن البلاط ودسائسه، حتى استخلف المقتدر، وثار عليه بعض رؤساء الجند والكتاب، فخلعوه وحملوا ابن المعتز إلى العرش وبايعوه بالخلافة،ولقبوه المرتضى بالله. غير أن خلافته لم تدم إلا يوما وليلةً، ذاك أن أنصار المقتدر لم يلبثوا أن تغلبوا على أنصاره وفتكوا بهم، وأعادوا صاحبهم إلى عرشه، ففر ابن المعتز واختبأ في دار ابن الجصاص، التاجر الجوهري، فأخذه المقتدر وسلمه إلى مؤنس الخادم، الذي مثَّل دوراً شهيراً في أيام العباسيين، فقتلهُ،وبعث به جثةً هامدة إلى أهله، فلفوه بكساءٍ ودفنوه بخربةٍ قرب داره".( )
قصيدة لابن المعتز:
معشر الكرام( )
لمـن دارٌ وربعٌ قـد تعفَّى / بنهرِ الكرخ مهجورُ النواحي
إذا مـا القطر حلاهُ تلاقت / على أطلاله هـوج الرِّياح
مَـحاه كـل هطالٍ مُـلِـحٍ / بـوبلٍ مثلِ أفـواهِ اللقاح
فباتَ بليلِ بـاكيةٍ ثـَكـولٍ / ضريرَ النجمِ مُتهم الصباح
وأسفرَ بعد ذلك عـن سماءٍ / كـأن نجومها حَدقُ المِلاحِ
سقى أرضاً تحلُّ بها سُليمى / ولا سقّى العواذل واللواحي
مهفهفةٍ لها نظرٌ مـريضٌ / وأحشاءٌ تضيعُ مـن الوشاحِ
وفتيانٍ كهمِك مـن أناسٍ / خِفافٍ في الهُدوِّ وفي الرواحِ
بعثتهمُ عـلى سفرٍ مَهيبٍ / فما ضربوا عليهم بـالقِداحِ
إلى أن يقول:
وأعـداءٍ دَلفتُ لهم بجمعٍ / سريع الخطوِ في يوم الصياحِ
وكنَّا معشراً خُلقوا كراماً / نَرى بذل النفوسِ من السماحِ
دَعونـا ظالمينَ فما ثُكلنا / وجِئنا فاقترعـنا بـالصِّفاحِ
وغـاديناهمُ بالخيل شُعثا / نُثير النَّقعَ بـالبلدِ المـراحِ
وفرسانٍ يرون القتل غُنماً / فما لهـمُ لديهِ مـن براحِ
وينهي ابن المعتز قصيدته بهذين البيتين:
إذا مـا قل مالي قل مَدحي / وإنْ أُثريتُ عادوا في امتداحي
وكم ذمٍّ لهم في جنبِ مَدحٍ / وجِـدٍّ بين أثـنـاءِ المـِزاحِ
"ولم يكن شاعرنا ممن يقيد قريحته بموضوعٍ واحد، وإنما كان يطلق لها الحرية،فتتنقل من موضوع إلى آخر؛ ولمَّا لم يكن له من عبقريته ما يسنّي له الابتكار والتوليد، حمل نفسه على التوكؤ على آثار الأقدمين، ومن سبقه من المولدين، فنراه مثلا في وصف الربوع الخالية ووصف الفرس والمطر يتقفى خطى أمريء القيس؛ ويسير في وصف الخابية الكلفاء، والكرمة ومياه الفرات التي تسقيها على خطى الأخطل، ويتأثر ابن أبي ربيعة في زيارته الليلية، وأبا نواس في وصف مجالس اللهو، والخمرة وكؤوسها، والصيد وكلابه؛ غير أنه وإنْ لم يلحق بمن أخذ عنهم كان يحلي ما أخذه بجمالِ تشابيهه، ويزينه برشاقة تعابيره المزوقة" ( )
إن مُتتبع هذه القصيدة يجد أن ابن المعتز نَهَجَ نَهْجَ الأقدمين، فابتدأ قصيدته بالسؤال عن أطلال سُليمى ووصفها، ومن ثم الانتقال إلى مواضيع شتى، ولم يكتفِ ابن المعتز بتقليد الأقدمين في شكل القصيدة فقط، بل إنه تمادى حتى في معانيه؛ فقد استقى بعضها من معلقة عمرو بن كلثوم، فمثلاً قوله: دعونا ظالمين فما ثُكلنا / وجِئنا فاقترعنا بالصفاحِ
وقوله:
وفرسانٍ يرون القتل غُنما / فما لهمُ لديهِ من براحِ
وكأنه يتشبه بابن كلثوم في قوله:
نسمى ظالمين وما ظُلمنا / ولكنَّا سنبدأ ظـالميـنـا
بشبانٍ يرون القتل مجداً / وشيبٍ في الحروبِ مجربينا
ولم يكتفِ ابن المعتز بذلك بل ختم قصيدته بأبيات تشبه أبيات زهيرٍ في الحكمة، إذن فابن المعتز ما زال على طريقة الأقدمين مُحافظا برغم اختلاف الأزمان وتغير الواقع، وهذا يعني أنه ما زال يرى نهج القدماء هو الأفضل، ويفضله على من سواه في شكل القصيدة، وإذا نظرنا إلى قصائد ابن المعتز، نجد أنه تشبه بالشعراء المحدثين في خمرياته، التي شابهت خمريات أبي نواس.
لقد استطاع ابن المعتز أن يجمع بين نهج القدماء مع استيعاب متطلبات عصره الذي عاشه، وهذا هو التطور الحقيقي المبني على القديم، وليس ذلك الذي ينفي القديم، فهو من جانب يقف على الأطلال، ويتغنى بالخمرة تارة، ويتعمق في صورته الفنية، ويزخرف شعره بالمحسنات البديعية دونما تكلفٍ. لا يختلف اثنان على أنَّ بن المعتز كان من فحول شعراء عصره، وهذا يعني أنّ َنهجه لم يكن غريبا على عصره.
وإذا ما تتبعنا شعر ابن المعتز نجده متنوع الأغراض، يتسم معظمه بالجزالة التي تشي بمدى شاعريته وقدرته اللغوية هذا إضافة إلى فلسفته التي قامت على اللهو والمجون دونما خجل، فهو في كثيرٍ من قصائده ينهى لائميه الذين يحاولون إبعاده عن الخمرة ومجالس اللهو، وإذا ما وازنَّا ابن المعتز مع أبي نواس في الشخصية نجد أن ابن المعتز لم يتغزل بالغلمان، ولم يكن شعوبيا، ولم يتمرد على المقدمة الطللية ذاك التمرد الذي اشتهر به أبو نواس
ثالثاً:
الموازنة بين المقدمة في العصرين
لقد كانت المقدمة الطللية في العصر الجاهلي منتشرة في معظم القصائد، وبالذات قصائد المديح، والمتتبع للشعر الذي وصلنا يجد أن القصائد القصيرة تخلو من المقدمات الطللية، وعادة ما تبدأ في الموضوع مباشرةً، فهذا الأعشى عندما أراد وصف معركة ذي قار قد ابتدأ قصيدته بهذا البيت ( ) :
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي / وراكبها يـوم اللِّقاءِ وقلَّتِ
ومن المؤكد أن الشاعر الجاهلي كان دائم الترحال مع قبيلته، فكان إذا أراد أن يقول شعراً يستمد معانيه من واقعه، ومن ثم يصدره بلغة فنية جميلة؛ لذلك لم يخلُ الشعر الجاهلي من وصف للأطلال أو الناقة وغيرها من الأمور التي كان يعيش معها. إن بساطة العيش التي كان يعيشها شاعرنا الجاهلي، كانت لها الدور الأهم في بناء القصيدة الجاهلية، بشكلها الذي عرفناه، وببنيتها وحتى ألفاظها، وهذا لا يمنع أن يُسَخِرَ الشاعر الجاهلي واقعه من أجل رسم صورة فنية رامزة كما حدث مع زهير بن أبي سلمى في مقدمته التي سبق الحديث عنها. كل هذا يجعلنا نخلص إلى أن الشاعر الجاهلي لم يكن دائما صريحا في خطابه ولا مباشراً فيه، وهذا ما أكده ابن قتيبة في تحليله للمقدمة الطللية.
ومن المؤكد أيضاً أن الشعراء مهما اختلفت جنسياتهم ولغاتهم وأفكارهم ومعتقداتهم لا بد وأن يلامسوا واقعهم، فالمعاني كما قالوا سابقا على قارعة الطريق، وهذا يعني أنها في الواقع، "وقد قيل لكُثير: كيف تصنع إذا عسُر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المخيلة، والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلي أحسنه" .( )
إن ما يثبت أن الشاعر الجاهلي قد ابتدع المقدمة الطللية من واقعه، ورسمها كما شاء، "قول امريء القيس )
عوجا على الطلل المُحيل لعلنا / نبكي الديار كما بكى ابن حُذام
وهو (أي ابن حذام) رجل من طي لم نسمع شعره الذي بكى فيه، ولا شعراً غير هذا البيت الذي قاله امرؤ القيس".
وإذا ما عرجنا على الشعر العباسي نجده استمد معانيه من واقعه بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، فأبو نواس كان صادقاً في وصف الشراب والمجون واللهو ومجالسه؛ لأنه كان يحياها، ولكن ما يميز أبا نواس عن الشعراء الجاهليين هو: المباشرة في الخطاب، والبعد عن الرمزية، وهذا كما أرى ضعف في الشعر، لقد تتبع الشاعر العباسي المحسنات البديعية، وهذا يعني أنه فضل اللفظ على المعنى في كثير من الأحيان، على نقيض من الشاعر الجاهلي الذي كان همه إيصال المعنى بعدة وجوه، وعدم المباشرة فيه.
وإذا ما تتبعنا الشعراء العباسيين نجد أنهم انقسموا إلى اتجاهين هما:
الاتجاه المحافظ، والاتجاه المحدث، يقول الدكتور هيكل عن الاتجاه المحافظ الذي ظهر في الأندلس:" وهو الاتجاه الشعري الذي كان قد ظهر في الشرق كرد فعل للاتجاه المحدث الذي تزعمه أبو نواس، والذي خرج بالشعر العربي عن كثير من تقاليده، فجاء هذا الاتجاه ليعيد الشعر إلى طبيعته العربية، وذلك بالاقتراب من التقاليد الشعرية المأثورة، والتخفيف من تلك الثورة المتمردة التي لجأ إليها المحدثون، كل ذلك دون وقوف أو جمود عند ما كان عليه الشعر القديم من سذاجة وبداوة، بل مع سير وتطور يفيدان الشعر مما وصلت إليه العقلية العربية من رقي ومما بلغته الثقافة العربية من نهوض ومما نعم به المجتمع العربي من حضارة.
ومن هنا قد جاء هذا الاتجاه محافظا من جانب ومجددا من جانب؛ فهو محافظ في منهج القصيدة ولغتها وموسيقاها ثم في روحها وأخلاقياتها إلى حد كبير، وهو مجدد في معاني الشعر وصوره، ثم في أسلوبه وجمالياته إلى درجة بالغة.
فمن حيث المنهج يسير هذا الاتجاه غالباً على الطريقة القديمة في البدء بالبكاء على الأطلال، أو في الافتتاح بالغزل التمهيدي، ثم الانتقال إلى الغرض الأساسي الذي يسبق بوصف رحلة الشاعر وقد يُتبع بالفخر بشعره".( )
إن التجديد الذي يتحدث عنه د. هيكل عند أصحاب الاتجاه المحافظ، هو نتيجة حتمية للتطور الحضاري، والمدنية، ورقة العيش ورغده؛ فإذا ما وقفنا على الحياة الجاهلية ، نجد أنَّها كانت بسيطة إلى حد كبير مقارنة بالحياة العباسية؛ وشتان بين من يعيش حياة البادية بترحالها وقسوتها وقلة إنتاجها، وصعوبة مناخها، وبين حياة المدينة ورغدها، واستقرارها، وكثرة وسائل الترفيه فيها، هذا من جانب، وهناك جانب آخر هو: أن حياة البداوة تفتقر إلى التعليم والانفتاح والتبادل الثقافي مع الثقافات الأخرى، على عكس حياة المدينة التي يَأمُها التجار والصناع وكل الفئات والشرائح الاجتماعية.
كل هذا أدى إلى التجديد في سائر مناحي الحياة بما فيها الشعر، وهناك من غالى في التجديد وهم أصحاب الاتجاه المحدث، وهناك من نادى بالتجديد بطريقة معتدلة، وهم أصحاب الاتجاه المحافظ. ولكن ما التجديد الذي يتحدث عنه د. هيكل عند الاتجاه المحافظ؟ يقول هيكل:" وقد رأينا أهم جوانب هذا الاتجاه المحافظ الجديدة أربعة وهي:
1- جانب المعاني والصور وما يجب أن تكون عليه من طرافة وغرابة وجدة...
2- جانب الأسلوب وما ينبغي أن يجمل به من ألوان البديع وصنوف المحسنات ...
3- جانب منهج القصيدة وما يغلب أن يتبع فيه البدء ببكاء الأطلال أو الغزل التمهيدي...
4- جانب الموسيقى واللغة وما يغلب أن يراعى فيه الجزالة والفخامة والجلال".) (
أرى أن هيكل قد جانب الصواب هذه المرة بوضعه هذه الجوانب، إذ أن الحد الفاصل بين شعراء الاتجاه المحافظ والمحدث هو فقط الجانب الثالث ليس إلا، والذي يؤكد ذلك هو قراءتنا للشعر الجاهلي وكذلك لشعر أبي نواس، فحتماً سنجد فيهما جانب الموسيقا جانباً مشرقاً وكذلك جزالة اللفظ وفخامة المعنى، ونجد كذلك الزخرفة البديعية عند أبي نواس بأجمل حلة عرفها الشعر، إضافة إلى المعاني الجميلة والطريفة.
وهذا يعني أن الذي دعانا لتصنيف أبي نواس أنه محدثاً فقط ثورته على المقدمة الطللية إضافة لمجونه وشعوبيته. وإذا ما تتبعنا ديوان ابن المعتز نجد أنه تغزل ولهى وشرب الخمر بل وجاهر به كما سبق، ولم يستمع للائميه في ذلك، وخمرياته لا تقل عن خمريات أبي نواس لولا أنَّ أبا نواس قد مزجها بالثورة على المقدمة الطللية.
لا يختلف اثنان أن المجون يبدأ بالشراب، لذا فمعظم شعراء العصر الجاهلي والعباسي قد تغنوا بالخمرة، فهل هناك علاقة جدلية بين الشعر والخمرة؟
يرى الباحث أن المقولة القديمة " الشعر إذا دخل باب الخير لان وضعف " أنها صحيحة والسبب في ذلك عدة أمور لها علاقة بهذا الموضوع ( جدلية الشعر والخمرة) وهي :
1- أن الشعر مرتبط بالعاطفة كالروح والجسد، فإذا خلا منها مات، والعاطفة تعني ضعف التفكير أمام المشاعر، والخمرة تُذهب العقل فتظهر صوت النفس ليخرج على لسان الشعراء شعراً.
2- إن ما يفرق الشعر عن النثر ليس الأوزان فقط برغم اعتماده عليها، ذلك أن الشعر يعني الطرب والغناء ومخاطبة المشاعر، وهذا لا يتأتى إلا بالغناء، ولا يغني الإنسان عندما يكون غضباً، أو منشغل التفكير، فما الذي يبعد الإنسان عن التفكير، ويمنحه الصفاء سوى الخمرة؟
3- وإذا ما تتبعنا الشعر السياسي نجد أنه ضعيفاً لا لشيء، فقط لأنه خلا من العاطفة.
4- إن أغراض الشعر كافة مرتبطة بالعاطفة؛ فالمديح مرتبط بحب الممدوح واحترامه، والرثاء مرتبط بعاطفة التحسر على الشخص المرثي ومليء بالعاطفة، لذلك فهو دائماً نوع من البكاء، والوصف مرتبط بالإعجاب وهو بالنفس، أما الغزل فهو مرتبط بالعاطفة والإعجاب والغريزة وحب الجنس الآخر، لذلك فهو في نظري أروع الشعر وأصدقه، والهجاء مرتبط بعاطفة البغض.
إن جدلية الشعر والخمرة قد وصلت عند الشعراء إلى رفع صوتهم، ضد تحريمها فهذا ابن عبد ربه الشاعر الأندلسي _ وهو ليس شعوبياً- يقول )
ديننا في السماع دينٌ مدينىٍ / وفي شربنا الشراب عراقي( )
إنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا هذا الحديث عن الخمرة وما الذي تعنيه بالنسبة لهذا البحث؟ والجواب هنا؛ لنفي قول من يعتقد أن المجون واللهو والشراب حكراً على أصحاب الاتجاه المحدث، وبهذا أكون قد وضعت خطاً فاصلاً بين الاتجاه المحدث والاتجاه المحافظ، وهو المقدمة الطللية، أو عدم المباشرة بالموضوع الذي يريده الشاعر، فكلما كان الشاعر رامزاً في شعره، يتغلغل في نفس المستمع قبل الدخول في موضوع قصيدته، كان أقرب إلى الاتجاه المحافظ، وعكس ذلك يكون الشاعر أقرب إلى الاتجاه المحدث، أما الحديث عن المعاني والصور فهي مستمدة من الواقع ولا دخل للشاعر في صنعها إذ أنها موجودة في واقعه، والذي يميز الشعراء في ذلك هو مدى امتلاكهم لقوة الملاحظة، وهي ليست موهبة كما هو الشعر.
وخلاصة القول هنا أن الاختلاف بين الشعراء بوجه عام يعتمد على عدة أمور هي:
1- العصر الذي عاشه الشاعر، والبيئة التي تواجد فيها، فليلى الأخيلية عاشت العصر الأموي ولكن شعرها اختلف عن شعر الفرزدق؛ بسبب اختلاف البيئة .
2- العلم الذي تلقوه في بيئتهم، فالأعشى مثلاً لم تكن لديه النماذج الشعرية التي توافرت للمتنبي، وكذلك لم تكن لديه العلوم التي توافرت لأبي تمام.
3- الظروف الخاصة التي عاشها كل شاعر؛ فالمهلهل عاش حياة الحرب، والرثاء، فكان دائم البكاء على أخيه كليب، بينما عاش أبو نواس ظروفاً مليئة بالملاهي والمجون ورغد العيش .
4- الفكر الذي يؤمن به الشاعر ومدى التزامه به، فشعراء التصوف يختلفون عن شعراء المجون
5- غنى الشاعر أو فقره، حيث أن هذه الأمور تؤثر في مركز الشاعر الاجتماعي ومدى حصوله على الملذات، وهذا ما فرق ابن الشمقمق عن ابن المعتز مثلاً.
بعد كل هذا أرى أنْ لا شيء يمنع من القول أن الشعراء في كل العصور متساوون في اتجاهاتهم لولا هذه الأمور المذكور.
عليه يمكن القول أن ما يميز الشاعر العباسي عن الجاهلي أو العكس عدة أمور أهمها:
1- تفضيله اللفظ على المعنى، على النقيض من الشاعر الجاهلي الذي فضل المعنى على اللفظ، وهذا صراع قديم وقع فيه أجدادنا، أجد موقفي منه هو: أنه من الأفضل تفضيل اللفظ على المعنى في الشعر، مع أهمية المعنى في اللفظ، حيث أنَّ استخدام المحسنات البديعية يجمل الشعر إذا كان غير متكلف، ولكي تكون اللفظة لها جرسها يجب أن يكون للمعنى دور في إبرازها، أما بالنسبة للنثر فيجب تفضيل المعاني على الألفاظ إذ أن الغاية منه( أي النثر) توصيل المعنى، مع الاهتمام باللفظ .
2- لم يكن البيت الشعري في القصائد الجاهلية مكتفياً بذاته في معظم الأحيان، إذ لم يكن ينتهي به المعنى الذي أراده الشاعر؛ لذا جاءت القصيدة الجاهلية مقسمة إلى لوحاتٍ فنية مترابطة بعضها مع بعض، وإذا ما نزعنا أي بيت من المقدمة الطللية، مثلاً فإنه لا يكون مكتفياً بذاته. ولنأخذ مثلاً بيتاً من معلقة النابغة الذبياني التي بين أيدينا وليكن هذا البيت:
فعدِ عما ترى إذ لا ارتجاع له / وانمِ القتود إلى عيرانةٍ أُجُدِ
فالنابغة إذن يدعو نفسه للمسير عن الأطلال؛ لأنها محالٌ أن تعود، فلماذا وقف إذن؟ وهل امتنع النابغة عن الوقوف على الأطلال بعدها؟ أم أن هناك معنى آخر أراده الشاعر؟
من المؤكد أن أبا أمامة أراد أن يقول للنعمان أن الماضي يذهب بلا عودة، وكأنه يقول للنعمان :فعدِ عن الماضي فقد ذهب ولا عودة له، وتعال نبدأ من جديد بعد عفوك عني، وهذا ما تؤكده قصيدته كاملةً.
بينما لو أخذنا بيتاً من الشعر لدى أبي نواس مثلاً وليكن هذا البيت:
لا جف دمع الذي يبكي على حجرٍ / ولا شفى قلب من يصبو إلى وتدِ
نجد أن بيت أبي نواس يمكن أن يكتفي بذاته في المعنى ولا يمكن تأويله لأي معنىً آخر، وهذه الظاهرة قد تعمم على معظم الشعر العباسي.
إن قارىء القصيدة الجاهلية يجد أنها متعددة اللوحات، ولكنها تمتاز بالوحدة الموضوعية، بينما تميزت القصيدة العباسية بأنها في معظمها لوحة واحدة؛ لذا كانت من البديهي أن تتميز بالوحدة الموضوعية.
3-حاول الشاعر العباسي محاكاة النماذج الجاهلية كابن المعتز مثلاً، ولكنه في رأيي لم يكن موفقاً، لأنه لم يرمز في مقدمته الطللية إلى شيء، فقد أراد من ذلك التقليد فقط، وربما تعبيراً عن رأيه بأنه ضد الاتجاه المحدث؛ فابن المعتز لم يكن باكياً على الأطلال والدليل على ذلك قوله:
وفتيانٍ كهمِك مـن أناسٍ / خِفافٍ في الهُدوِّ وفي الرواحِ
بعثتهمُ عـلى سفرٍ مَهيبٍ / فما ضربوا عليهم بـالقِداحِ
وأعـداءٍ دَلفتُ لهم بجمعٍ / سريع الخطوِ في يوم الصياحِ
وكنَّا معشراً خُلقوا كـراماً / نَرى بذل النفوسِ من السماحِ
دَعـونـا ظالمين فما ثُكلنا / وجِئنا فاقترعـنا بـالصِّفاحِ
وغـاديناهمُ بالخيل شُعثا / نُثير النَّقعَ بـالبلدِ المـراحِ
وفرسانٍ يرون القتل غُنماً / فما لهـمُ لديهِ مـن براحِ
فأي فتيانٍ الذي بعثهم ابن المعتز؟ ثم هل كان في العصر العباسي قِداح تُضرب؟ هذه عادة جاهلية انتهت بمجيء الإسلام، وأي أعداءٍ الذي ذهب إليهم ابن المعتز وهو في ظل الخلافة، ولم يكن زمنهم الغزو الذي كان في الجاهلية، ولو كان لابن المعتز أعداء لشكاهم للخليفة آنذاك مثلاً، فهو لا يستطيع القتال كما يشاء، ولم نسمع كتب التاريخ تتحدث عن ابن المعتز و وقعاته كما تحدث عن كثيرين من أمثال سيف الدولة مثلا.
وهذا يعني أنَّ ابن المعتز قد حاول تقليد الشعر الجاهلي، وزناً ومعنىً ولفظاً؛ لهذا لم يكن ابن المعتز صادقاً كصدق أبي نواس. فابن المعتز كما ذكرت سابقاً قد حاول تقليد معلقة ابن كلثوم حتى في المعنى، برغم اختلاف الظروف والعصور، وهذا ما جعل القصيدة تفتقد إلى عصرها .
3- لقد تميز الشاعر الجاهلي عن العباسي بأسلوبه المشرق، فإذا كان الشاعر العباسي متميزاً بمحسناته اللفظية، فإن الشاعر الجاهلي بشكل عام تميز بعدم المباشرة بالخطاب، ومحاولته إيصال المعنى بطريقة رامزة ، كاستخدام الطلل و المرأة وتسخيرهما في إيصال معناه، كما تم توضيحه سابقاً سواء في شعر زهير أو النابغة. وهذه محطاتٌ بلاغية ليس من السهل الوصول إليها؛ فرسم لوحاتٍ مختلفة تبدو لأول وهلة، وعند تدقيق النظر جيداً إليها تبدو غير مختلفة، وهذا في نظري السحر بعينه. لهذا ظل الشعر الجاهلي مشرقاً على مر العصور.
4- ربما فضل البعض الشعر العباسي لأنه طرق معانٍ جديدة لم يطرقها الشعر الجاهلي، وهذا رأي أرى أن صاحبه وقع في خطأ؛ لأن جميع المواضيع التي طرقها الشعراء هي من واقعهم، فلربما لو عاش الشاعر الجاهلي الحياة العباسية لاستخدم المعاني نفسها التي طرقها الشاعر العباسي، فالمعاني موجودة على قارعة الطريق، ولدى الشاعر الجاهلي أساليبه ووسائله لتحويلها إلى لغة فنية.
بعد كل هذا أستنتجُ مما سبق أن الشعر يجب أن يتحلى بأساليب الشعر وأوزانه ووسائله كاملة غير منقوصةٍ، وأروع الشعر في نظري هو ما كان رامزاً غير مباشر كما هو الشعر الجاهلي ومُجَمَّلاً بألوان البلاغة البديعية والبيان كما هو الشعر العباسي ولكن دون تكلف. وطبعاً حديثي هنا مختصٌ بالشعر العربي؛ لتميزه بلغته العربية الخالدة.
الخاتمة
الحمد لله الذي وهب لنا هذه اللغة عنوانا ًلكل غيورٍ على العروبة ووحدتها، فأنارت لنا الطريق وجمعتنا كما تجمع الأم أبناءها، وقديماً قال الشاعر:
لسان الضاد يجمعنا بغسانٍ و عـدنـانِ
وبعد: فقد أردت من اختياري لدراستي هذه توضيح العديد من الأمور التي اختلطت علينا؛من تطور وتقليد وتغيُرٍٍ حدث على المقدمة الطللية قاصداً بذلك أن أقدم توضيحاً يجعلنا ندرك أين نحن من التطور الآن، وقد قطعنا شوطاً طويلاً برأيي لا نعرف أين نسير فأصبحنا مقلدين غير منتجين،ولا مبدعين؛ مما أدى بنا إلى خسران مكانتنا بين الأمم.
ففي قراءتي للعصر الحالي (التمهيد) بينت العديد من المصطلحات، وتوصلتُ إلى أن ما نحياه اليوم ليس تطوراً بل على العكس تماماً، فنحن نعيش التبعية بشتى أنواعها. وأننا بحاجة إلى ثقافة ثورية خالصة تخرجنا من الظلمات إلى النور، وتوصلت إلى أن العلاقة التي تربطنا بالثقافات الأخرى هي علاقة التقليد ليس إلا. وبينتُ أن هناك بوناً شاسعاً بين التطور الذي جرى في العصر العباسي والذي هو نتاج للتقدم الحضاري، وبين ما نعيشه الآن من تبعية ثقافية مقيتة أوصلتنا إلى التعليم المقلوب.
تحدثتُ بعدها عن المقدمة الطللية لغة واصطلاحاً، ثم انتقلتُ لدراسة المقدمة في العصر الجاهلي، وناقشت مجموعة من الآراء التي فَسَرَتْها، وتوصلتُ عندها إلى أنَّ الرأي الأصوب في تفسير المقدمة الطللية هو رأي ابن قتيبة الذي قال :إن الشاعر الجاهلي كان يتعمد جذب السامع قبل أن يأتي إلى الموضوع الذي يريده حتى يصل لمبتغاه، وبينتُ أن كثيراً من الآراء الحديثة تعتمد نهجاً خاطئاً في تفسيراتها للمقدمة الطللية.
ثم أخذت نموذجين من المقدمة الطللية لشاعرين من العصر الجاهلي هما زهير بن أبي سُلمى والنابغة الذبياني وقمتُ بتحليلهما حيث وصلت إلى أنَّ هناك علاقة وثيقة بين موضوع القصيدة والمقدمة الطللية فيها، وأنَّ حبائلَ الربطِ كانت تلك الوسيلة الفنية التي كان يغزلها الشاعر في مقدمة قصيدته حيث تسير معه في الطول حتى نهاية القصيدة، فتجمِّلها بالوحدة الموضوعية.
وفي حديثي عن الشعوبية ومدى تأثيرها على المقدمة الطللية، استنتجتُ أن الشعوبية لم تكن لتنتصر على المقدمة الطللية لولا حالة الاستقرار والتمدن والنهضة التي عمَّت ذلك العصر في كل جوانبه فوقفتْ سداً منيعاً أمام رياح الشمال والجنوب لتمنعها من أن تعفى الرسوم والأطلال، بل لم تعد حياة البادية والترحال موجودة لكي تتواجد الأطلال.
ولكي تكتمل موازنتي فقد اتخذتُ نموذجين لشاعرين عباسيين هما: أبو نواس وابن المعتز، وتطرقتُ للعديد من الآراء بالنسبة لأبي نواس وحداثته وثورته على المقدمة الطللية، وتوصلتُ إلى أنَّ أبا نواس كان صادقاً في شعره ومباشراً فيه، وأنّ ابن المعتز قد قلَّد الشعراء الجاهليين في قصيدته التي بين أيدينا.
أما عن الموازنة بين العصرين (الجاهلي والعباسي) فقد بينتُ أن الشاعر الجاهلي كان يهتم بالمعنى أكثر من اللفظ، وذلك على العكس من الشاعر العباسي، وأن الشعراء يتأثرون ببيئاتهم، وحاولت قدر استطاعتي أن أعطي كل ذي حقٍ حقه، بعد التعمق في واقع كل عصر.
وفي نهاية بحثي أرجو أن أكون قد وضعتُ يدي على جرح العربية النازف في هذا العصر، واستـنـبتُ دواءً لهذا الداء من أصالتنا وتراثنا وحضارتنا التليدة .
أستمحيكم عذراً إن زلَّ قلمي، ولم يفصح لساني أكثر من ذلك، فالخطب جلل، والعربية تتعرض لمؤامراتٍ لا نهاية لها، والسيوف المشهرة من أجلها تكاد تضعف أمام تيار التبعية الجارف، وأصبح القابض على لغته وتراثه كالقابض على الجمر، وعرين المضرية حُطمتْ أركانه وأصبح مقاماً لذؤبان بني ضلالة، وأخيراً وليس آخراً أقول قول الشاعر:
فهيا يا بني العربِ / إلى العلياء بالعلمِ
وغنوا يا بني أمي / بلاد العربِ أوطاني
والله الموفق
قائمة المصادر والمراجع
*-الأصفهاني. أبو الفرج: الأغاني،التونسية للنشر، تونس، المجلد الرابع،1983 .
*-التبريزي. يحيى بن علي: شرح المعلقات العشر، دار الآفاق، بيروت، ط8،1980 .
*-الجُمحي. ابن سلام: طبقات فحول الشعراء، دار المعارف، القاهرة، 1952 .
*-د.خليف. مي يوسف: الموقف النفسي عند شعراء المعلقات، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة .
*- السيوطي. عبد الرحمن: نزهة الجلساء في أشعار النساء، مكتبة القرآن، القاهرة، ط1 .
*- د. ضيف. شوقي: العصر العباسي الأول، دار المعارف، القاهرة،ط8 .
*- د. عبد المطلب. محمد: قراءة ثانية في شعر امرئ القيس، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط1، 1996 .
*- العسكري. أبو هلال: الأوائل، دار العلوم، الرياض،1980 .
*- د. عطوي. فوزي: ديوان النابغة الذبياني، الشركة اللبنانية للكتاب،بيروت، 1969.
*- الفراهيدي. الخليل بن أحمد: معجم العين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2001
*- ابن قتيبة. عبدالله بن مسلم: الشعر والشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985
*- ابن المعتز: ديوان ابن المعتز، دار صادر، بيروت.
*- ابن منظور. جمال الدين محمد: لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط3، 1994 .
*- د.النعيمي. أحمد إسماعيل: الأسطورة في الشعر العربي قبل الإسلام، سينا للنشر، القاهرة، ط1، 1995 .
*-د.هيكل. احمد: الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوطه، دار المعارف، مصر، ط7 ، 1979.
عـاج الشقي عـلى دارٍ يُسائلها / وعُجـتُ أسأل عـن خمارةِ البلدِ
لا يرقئ الله عيني من بكى حجراً / ولا شفى وجد من يصبو إلى وتدِ
قالوا ذكرت ديار الحي مـن أسد / لا در درُك قـلي مـن بنو أسد
ومـن تميمُ ومـن قيسٌ وإخوتهم / ليس الأعاريب عند الله مـن أحدِ
دع ذا عدمتك، واشربها معتقةً / صفراء تعنِق بين الماء والزبد
كم بين من يشتري خمراً يلذ بها / وبين بـاكٍ عـلى نؤيٍ ومنتضدِ
لو كـان لومُك نصحاً كنتُ أقبله / لكن لومك محمول عـلى الحسدِ
لقد اخترت هذه القصيدة من ديوان أبي نواس من بين عشرات القصائد التي تدور في المعنى نفسه ، فأبو نواس لم يكتفِ بعدم الوقوف على الأطلال فقط، بل هاجم من يقف على الطلل، مفضلاً على ذلك الخمرة التي طالما تغنى وتغزل بها. إن ثورةَ أبي نواس على المقدمة الطللية وبهذه الصراحة المتناهية، والتي يظهر فيها شتمه للعرب وعاداتهم، هي نتاج معتقداته الشعوبية التي تزدري العرب وتحقِّرهم، وترفع من الفرس، كيف لا وهو القائلُ:
فأين البدو من إيوان كسرى / وأين من الميادينِ الزُروبُ( )
ب- ابن المعتز 247- 296 )
"هو عبدالله بن المعتز، الخليفة العباسي، ولد في بغداد ونشأ فيها، بعيداً عن البلاط ودسائسه، حتى استخلف المقتدر، وثار عليه بعض رؤساء الجند والكتاب، فخلعوه وحملوا ابن المعتز إلى العرش وبايعوه بالخلافة،ولقبوه المرتضى بالله. غير أن خلافته لم تدم إلا يوما وليلةً، ذاك أن أنصار المقتدر لم يلبثوا أن تغلبوا على أنصاره وفتكوا بهم، وأعادوا صاحبهم إلى عرشه، ففر ابن المعتز واختبأ في دار ابن الجصاص، التاجر الجوهري، فأخذه المقتدر وسلمه إلى مؤنس الخادم، الذي مثَّل دوراً شهيراً في أيام العباسيين، فقتلهُ،وبعث به جثةً هامدة إلى أهله، فلفوه بكساءٍ ودفنوه بخربةٍ قرب داره".( )
قصيدة لابن المعتز:
معشر الكرام( )
لمـن دارٌ وربعٌ قـد تعفَّى / بنهرِ الكرخ مهجورُ النواحي
إذا مـا القطر حلاهُ تلاقت / على أطلاله هـوج الرِّياح
مَـحاه كـل هطالٍ مُـلِـحٍ / بـوبلٍ مثلِ أفـواهِ اللقاح
فباتَ بليلِ بـاكيةٍ ثـَكـولٍ / ضريرَ النجمِ مُتهم الصباح
وأسفرَ بعد ذلك عـن سماءٍ / كـأن نجومها حَدقُ المِلاحِ
سقى أرضاً تحلُّ بها سُليمى / ولا سقّى العواذل واللواحي
مهفهفةٍ لها نظرٌ مـريضٌ / وأحشاءٌ تضيعُ مـن الوشاحِ
وفتيانٍ كهمِك مـن أناسٍ / خِفافٍ في الهُدوِّ وفي الرواحِ
بعثتهمُ عـلى سفرٍ مَهيبٍ / فما ضربوا عليهم بـالقِداحِ
إلى أن يقول:
وأعـداءٍ دَلفتُ لهم بجمعٍ / سريع الخطوِ في يوم الصياحِ
وكنَّا معشراً خُلقوا كراماً / نَرى بذل النفوسِ من السماحِ
دَعونـا ظالمينَ فما ثُكلنا / وجِئنا فاقترعـنا بـالصِّفاحِ
وغـاديناهمُ بالخيل شُعثا / نُثير النَّقعَ بـالبلدِ المـراحِ
وفرسانٍ يرون القتل غُنماً / فما لهـمُ لديهِ مـن براحِ
وينهي ابن المعتز قصيدته بهذين البيتين:
إذا مـا قل مالي قل مَدحي / وإنْ أُثريتُ عادوا في امتداحي
وكم ذمٍّ لهم في جنبِ مَدحٍ / وجِـدٍّ بين أثـنـاءِ المـِزاحِ
"ولم يكن شاعرنا ممن يقيد قريحته بموضوعٍ واحد، وإنما كان يطلق لها الحرية،فتتنقل من موضوع إلى آخر؛ ولمَّا لم يكن له من عبقريته ما يسنّي له الابتكار والتوليد، حمل نفسه على التوكؤ على آثار الأقدمين، ومن سبقه من المولدين، فنراه مثلا في وصف الربوع الخالية ووصف الفرس والمطر يتقفى خطى أمريء القيس؛ ويسير في وصف الخابية الكلفاء، والكرمة ومياه الفرات التي تسقيها على خطى الأخطل، ويتأثر ابن أبي ربيعة في زيارته الليلية، وأبا نواس في وصف مجالس اللهو، والخمرة وكؤوسها، والصيد وكلابه؛ غير أنه وإنْ لم يلحق بمن أخذ عنهم كان يحلي ما أخذه بجمالِ تشابيهه، ويزينه برشاقة تعابيره المزوقة" ( )
إن مُتتبع هذه القصيدة يجد أن ابن المعتز نَهَجَ نَهْجَ الأقدمين، فابتدأ قصيدته بالسؤال عن أطلال سُليمى ووصفها، ومن ثم الانتقال إلى مواضيع شتى، ولم يكتفِ ابن المعتز بتقليد الأقدمين في شكل القصيدة فقط، بل إنه تمادى حتى في معانيه؛ فقد استقى بعضها من معلقة عمرو بن كلثوم، فمثلاً قوله: دعونا ظالمين فما ثُكلنا / وجِئنا فاقترعنا بالصفاحِ
وقوله:
وفرسانٍ يرون القتل غُنما / فما لهمُ لديهِ من براحِ
وكأنه يتشبه بابن كلثوم في قوله:
نسمى ظالمين وما ظُلمنا / ولكنَّا سنبدأ ظـالميـنـا
بشبانٍ يرون القتل مجداً / وشيبٍ في الحروبِ مجربينا
ولم يكتفِ ابن المعتز بذلك بل ختم قصيدته بأبيات تشبه أبيات زهيرٍ في الحكمة، إذن فابن المعتز ما زال على طريقة الأقدمين مُحافظا برغم اختلاف الأزمان وتغير الواقع، وهذا يعني أنه ما زال يرى نهج القدماء هو الأفضل، ويفضله على من سواه في شكل القصيدة، وإذا نظرنا إلى قصائد ابن المعتز، نجد أنه تشبه بالشعراء المحدثين في خمرياته، التي شابهت خمريات أبي نواس.
لقد استطاع ابن المعتز أن يجمع بين نهج القدماء مع استيعاب متطلبات عصره الذي عاشه، وهذا هو التطور الحقيقي المبني على القديم، وليس ذلك الذي ينفي القديم، فهو من جانب يقف على الأطلال، ويتغنى بالخمرة تارة، ويتعمق في صورته الفنية، ويزخرف شعره بالمحسنات البديعية دونما تكلفٍ. لا يختلف اثنان على أنَّ بن المعتز كان من فحول شعراء عصره، وهذا يعني أنّ َنهجه لم يكن غريبا على عصره.
وإذا ما تتبعنا شعر ابن المعتز نجده متنوع الأغراض، يتسم معظمه بالجزالة التي تشي بمدى شاعريته وقدرته اللغوية هذا إضافة إلى فلسفته التي قامت على اللهو والمجون دونما خجل، فهو في كثيرٍ من قصائده ينهى لائميه الذين يحاولون إبعاده عن الخمرة ومجالس اللهو، وإذا ما وازنَّا ابن المعتز مع أبي نواس في الشخصية نجد أن ابن المعتز لم يتغزل بالغلمان، ولم يكن شعوبيا، ولم يتمرد على المقدمة الطللية ذاك التمرد الذي اشتهر به أبو نواس
ثالثاً:
الموازنة بين المقدمة في العصرين
لقد كانت المقدمة الطللية في العصر الجاهلي منتشرة في معظم القصائد، وبالذات قصائد المديح، والمتتبع للشعر الذي وصلنا يجد أن القصائد القصيرة تخلو من المقدمات الطللية، وعادة ما تبدأ في الموضوع مباشرةً، فهذا الأعشى عندما أراد وصف معركة ذي قار قد ابتدأ قصيدته بهذا البيت ( ) :
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي / وراكبها يـوم اللِّقاءِ وقلَّتِ
ومن المؤكد أن الشاعر الجاهلي كان دائم الترحال مع قبيلته، فكان إذا أراد أن يقول شعراً يستمد معانيه من واقعه، ومن ثم يصدره بلغة فنية جميلة؛ لذلك لم يخلُ الشعر الجاهلي من وصف للأطلال أو الناقة وغيرها من الأمور التي كان يعيش معها. إن بساطة العيش التي كان يعيشها شاعرنا الجاهلي، كانت لها الدور الأهم في بناء القصيدة الجاهلية، بشكلها الذي عرفناه، وببنيتها وحتى ألفاظها، وهذا لا يمنع أن يُسَخِرَ الشاعر الجاهلي واقعه من أجل رسم صورة فنية رامزة كما حدث مع زهير بن أبي سلمى في مقدمته التي سبق الحديث عنها. كل هذا يجعلنا نخلص إلى أن الشاعر الجاهلي لم يكن دائما صريحا في خطابه ولا مباشراً فيه، وهذا ما أكده ابن قتيبة في تحليله للمقدمة الطللية.
ومن المؤكد أيضاً أن الشعراء مهما اختلفت جنسياتهم ولغاتهم وأفكارهم ومعتقداتهم لا بد وأن يلامسوا واقعهم، فالمعاني كما قالوا سابقا على قارعة الطريق، وهذا يعني أنها في الواقع، "وقد قيل لكُثير: كيف تصنع إذا عسُر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المخيلة، والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلي أحسنه" .( )
إن ما يثبت أن الشاعر الجاهلي قد ابتدع المقدمة الطللية من واقعه، ورسمها كما شاء، "قول امريء القيس )
عوجا على الطلل المُحيل لعلنا / نبكي الديار كما بكى ابن حُذام
وهو (أي ابن حذام) رجل من طي لم نسمع شعره الذي بكى فيه، ولا شعراً غير هذا البيت الذي قاله امرؤ القيس".
وإذا ما عرجنا على الشعر العباسي نجده استمد معانيه من واقعه بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، فأبو نواس كان صادقاً في وصف الشراب والمجون واللهو ومجالسه؛ لأنه كان يحياها، ولكن ما يميز أبا نواس عن الشعراء الجاهليين هو: المباشرة في الخطاب، والبعد عن الرمزية، وهذا كما أرى ضعف في الشعر، لقد تتبع الشاعر العباسي المحسنات البديعية، وهذا يعني أنه فضل اللفظ على المعنى في كثير من الأحيان، على نقيض من الشاعر الجاهلي الذي كان همه إيصال المعنى بعدة وجوه، وعدم المباشرة فيه.
وإذا ما تتبعنا الشعراء العباسيين نجد أنهم انقسموا إلى اتجاهين هما:
الاتجاه المحافظ، والاتجاه المحدث، يقول الدكتور هيكل عن الاتجاه المحافظ الذي ظهر في الأندلس:" وهو الاتجاه الشعري الذي كان قد ظهر في الشرق كرد فعل للاتجاه المحدث الذي تزعمه أبو نواس، والذي خرج بالشعر العربي عن كثير من تقاليده، فجاء هذا الاتجاه ليعيد الشعر إلى طبيعته العربية، وذلك بالاقتراب من التقاليد الشعرية المأثورة، والتخفيف من تلك الثورة المتمردة التي لجأ إليها المحدثون، كل ذلك دون وقوف أو جمود عند ما كان عليه الشعر القديم من سذاجة وبداوة، بل مع سير وتطور يفيدان الشعر مما وصلت إليه العقلية العربية من رقي ومما بلغته الثقافة العربية من نهوض ومما نعم به المجتمع العربي من حضارة.
ومن هنا قد جاء هذا الاتجاه محافظا من جانب ومجددا من جانب؛ فهو محافظ في منهج القصيدة ولغتها وموسيقاها ثم في روحها وأخلاقياتها إلى حد كبير، وهو مجدد في معاني الشعر وصوره، ثم في أسلوبه وجمالياته إلى درجة بالغة.
فمن حيث المنهج يسير هذا الاتجاه غالباً على الطريقة القديمة في البدء بالبكاء على الأطلال، أو في الافتتاح بالغزل التمهيدي، ثم الانتقال إلى الغرض الأساسي الذي يسبق بوصف رحلة الشاعر وقد يُتبع بالفخر بشعره".( )
إن التجديد الذي يتحدث عنه د. هيكل عند أصحاب الاتجاه المحافظ، هو نتيجة حتمية للتطور الحضاري، والمدنية، ورقة العيش ورغده؛ فإذا ما وقفنا على الحياة الجاهلية ، نجد أنَّها كانت بسيطة إلى حد كبير مقارنة بالحياة العباسية؛ وشتان بين من يعيش حياة البادية بترحالها وقسوتها وقلة إنتاجها، وصعوبة مناخها، وبين حياة المدينة ورغدها، واستقرارها، وكثرة وسائل الترفيه فيها، هذا من جانب، وهناك جانب آخر هو: أن حياة البداوة تفتقر إلى التعليم والانفتاح والتبادل الثقافي مع الثقافات الأخرى، على عكس حياة المدينة التي يَأمُها التجار والصناع وكل الفئات والشرائح الاجتماعية.
كل هذا أدى إلى التجديد في سائر مناحي الحياة بما فيها الشعر، وهناك من غالى في التجديد وهم أصحاب الاتجاه المحدث، وهناك من نادى بالتجديد بطريقة معتدلة، وهم أصحاب الاتجاه المحافظ. ولكن ما التجديد الذي يتحدث عنه د. هيكل عند الاتجاه المحافظ؟ يقول هيكل:" وقد رأينا أهم جوانب هذا الاتجاه المحافظ الجديدة أربعة وهي:
1- جانب المعاني والصور وما يجب أن تكون عليه من طرافة وغرابة وجدة...
2- جانب الأسلوب وما ينبغي أن يجمل به من ألوان البديع وصنوف المحسنات ...
3- جانب منهج القصيدة وما يغلب أن يتبع فيه البدء ببكاء الأطلال أو الغزل التمهيدي...
4- جانب الموسيقى واللغة وما يغلب أن يراعى فيه الجزالة والفخامة والجلال".) (
أرى أن هيكل قد جانب الصواب هذه المرة بوضعه هذه الجوانب، إذ أن الحد الفاصل بين شعراء الاتجاه المحافظ والمحدث هو فقط الجانب الثالث ليس إلا، والذي يؤكد ذلك هو قراءتنا للشعر الجاهلي وكذلك لشعر أبي نواس، فحتماً سنجد فيهما جانب الموسيقا جانباً مشرقاً وكذلك جزالة اللفظ وفخامة المعنى، ونجد كذلك الزخرفة البديعية عند أبي نواس بأجمل حلة عرفها الشعر، إضافة إلى المعاني الجميلة والطريفة.
وهذا يعني أن الذي دعانا لتصنيف أبي نواس أنه محدثاً فقط ثورته على المقدمة الطللية إضافة لمجونه وشعوبيته. وإذا ما تتبعنا ديوان ابن المعتز نجد أنه تغزل ولهى وشرب الخمر بل وجاهر به كما سبق، ولم يستمع للائميه في ذلك، وخمرياته لا تقل عن خمريات أبي نواس لولا أنَّ أبا نواس قد مزجها بالثورة على المقدمة الطللية.
لا يختلف اثنان أن المجون يبدأ بالشراب، لذا فمعظم شعراء العصر الجاهلي والعباسي قد تغنوا بالخمرة، فهل هناك علاقة جدلية بين الشعر والخمرة؟
يرى الباحث أن المقولة القديمة " الشعر إذا دخل باب الخير لان وضعف " أنها صحيحة والسبب في ذلك عدة أمور لها علاقة بهذا الموضوع ( جدلية الشعر والخمرة) وهي :
1- أن الشعر مرتبط بالعاطفة كالروح والجسد، فإذا خلا منها مات، والعاطفة تعني ضعف التفكير أمام المشاعر، والخمرة تُذهب العقل فتظهر صوت النفس ليخرج على لسان الشعراء شعراً.
2- إن ما يفرق الشعر عن النثر ليس الأوزان فقط برغم اعتماده عليها، ذلك أن الشعر يعني الطرب والغناء ومخاطبة المشاعر، وهذا لا يتأتى إلا بالغناء، ولا يغني الإنسان عندما يكون غضباً، أو منشغل التفكير، فما الذي يبعد الإنسان عن التفكير، ويمنحه الصفاء سوى الخمرة؟
3- وإذا ما تتبعنا الشعر السياسي نجد أنه ضعيفاً لا لشيء، فقط لأنه خلا من العاطفة.
4- إن أغراض الشعر كافة مرتبطة بالعاطفة؛ فالمديح مرتبط بحب الممدوح واحترامه، والرثاء مرتبط بعاطفة التحسر على الشخص المرثي ومليء بالعاطفة، لذلك فهو دائماً نوع من البكاء، والوصف مرتبط بالإعجاب وهو بالنفس، أما الغزل فهو مرتبط بالعاطفة والإعجاب والغريزة وحب الجنس الآخر، لذلك فهو في نظري أروع الشعر وأصدقه، والهجاء مرتبط بعاطفة البغض.
إن جدلية الشعر والخمرة قد وصلت عند الشعراء إلى رفع صوتهم، ضد تحريمها فهذا ابن عبد ربه الشاعر الأندلسي _ وهو ليس شعوبياً- يقول )
ديننا في السماع دينٌ مدينىٍ / وفي شربنا الشراب عراقي( )
إنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا هذا الحديث عن الخمرة وما الذي تعنيه بالنسبة لهذا البحث؟ والجواب هنا؛ لنفي قول من يعتقد أن المجون واللهو والشراب حكراً على أصحاب الاتجاه المحدث، وبهذا أكون قد وضعت خطاً فاصلاً بين الاتجاه المحدث والاتجاه المحافظ، وهو المقدمة الطللية، أو عدم المباشرة بالموضوع الذي يريده الشاعر، فكلما كان الشاعر رامزاً في شعره، يتغلغل في نفس المستمع قبل الدخول في موضوع قصيدته، كان أقرب إلى الاتجاه المحافظ، وعكس ذلك يكون الشاعر أقرب إلى الاتجاه المحدث، أما الحديث عن المعاني والصور فهي مستمدة من الواقع ولا دخل للشاعر في صنعها إذ أنها موجودة في واقعه، والذي يميز الشعراء في ذلك هو مدى امتلاكهم لقوة الملاحظة، وهي ليست موهبة كما هو الشعر.
وخلاصة القول هنا أن الاختلاف بين الشعراء بوجه عام يعتمد على عدة أمور هي:
1- العصر الذي عاشه الشاعر، والبيئة التي تواجد فيها، فليلى الأخيلية عاشت العصر الأموي ولكن شعرها اختلف عن شعر الفرزدق؛ بسبب اختلاف البيئة .
2- العلم الذي تلقوه في بيئتهم، فالأعشى مثلاً لم تكن لديه النماذج الشعرية التي توافرت للمتنبي، وكذلك لم تكن لديه العلوم التي توافرت لأبي تمام.
3- الظروف الخاصة التي عاشها كل شاعر؛ فالمهلهل عاش حياة الحرب، والرثاء، فكان دائم البكاء على أخيه كليب، بينما عاش أبو نواس ظروفاً مليئة بالملاهي والمجون ورغد العيش .
4- الفكر الذي يؤمن به الشاعر ومدى التزامه به، فشعراء التصوف يختلفون عن شعراء المجون
5- غنى الشاعر أو فقره، حيث أن هذه الأمور تؤثر في مركز الشاعر الاجتماعي ومدى حصوله على الملذات، وهذا ما فرق ابن الشمقمق عن ابن المعتز مثلاً.
بعد كل هذا أرى أنْ لا شيء يمنع من القول أن الشعراء في كل العصور متساوون في اتجاهاتهم لولا هذه الأمور المذكور.
عليه يمكن القول أن ما يميز الشاعر العباسي عن الجاهلي أو العكس عدة أمور أهمها:
1- تفضيله اللفظ على المعنى، على النقيض من الشاعر الجاهلي الذي فضل المعنى على اللفظ، وهذا صراع قديم وقع فيه أجدادنا، أجد موقفي منه هو: أنه من الأفضل تفضيل اللفظ على المعنى في الشعر، مع أهمية المعنى في اللفظ، حيث أنَّ استخدام المحسنات البديعية يجمل الشعر إذا كان غير متكلف، ولكي تكون اللفظة لها جرسها يجب أن يكون للمعنى دور في إبرازها، أما بالنسبة للنثر فيجب تفضيل المعاني على الألفاظ إذ أن الغاية منه( أي النثر) توصيل المعنى، مع الاهتمام باللفظ .
2- لم يكن البيت الشعري في القصائد الجاهلية مكتفياً بذاته في معظم الأحيان، إذ لم يكن ينتهي به المعنى الذي أراده الشاعر؛ لذا جاءت القصيدة الجاهلية مقسمة إلى لوحاتٍ فنية مترابطة بعضها مع بعض، وإذا ما نزعنا أي بيت من المقدمة الطللية، مثلاً فإنه لا يكون مكتفياً بذاته. ولنأخذ مثلاً بيتاً من معلقة النابغة الذبياني التي بين أيدينا وليكن هذا البيت:
فعدِ عما ترى إذ لا ارتجاع له / وانمِ القتود إلى عيرانةٍ أُجُدِ
فالنابغة إذن يدعو نفسه للمسير عن الأطلال؛ لأنها محالٌ أن تعود، فلماذا وقف إذن؟ وهل امتنع النابغة عن الوقوف على الأطلال بعدها؟ أم أن هناك معنى آخر أراده الشاعر؟
من المؤكد أن أبا أمامة أراد أن يقول للنعمان أن الماضي يذهب بلا عودة، وكأنه يقول للنعمان :فعدِ عن الماضي فقد ذهب ولا عودة له، وتعال نبدأ من جديد بعد عفوك عني، وهذا ما تؤكده قصيدته كاملةً.
بينما لو أخذنا بيتاً من الشعر لدى أبي نواس مثلاً وليكن هذا البيت:
لا جف دمع الذي يبكي على حجرٍ / ولا شفى قلب من يصبو إلى وتدِ
نجد أن بيت أبي نواس يمكن أن يكتفي بذاته في المعنى ولا يمكن تأويله لأي معنىً آخر، وهذه الظاهرة قد تعمم على معظم الشعر العباسي.
إن قارىء القصيدة الجاهلية يجد أنها متعددة اللوحات، ولكنها تمتاز بالوحدة الموضوعية، بينما تميزت القصيدة العباسية بأنها في معظمها لوحة واحدة؛ لذا كانت من البديهي أن تتميز بالوحدة الموضوعية.
3-حاول الشاعر العباسي محاكاة النماذج الجاهلية كابن المعتز مثلاً، ولكنه في رأيي لم يكن موفقاً، لأنه لم يرمز في مقدمته الطللية إلى شيء، فقد أراد من ذلك التقليد فقط، وربما تعبيراً عن رأيه بأنه ضد الاتجاه المحدث؛ فابن المعتز لم يكن باكياً على الأطلال والدليل على ذلك قوله:
وفتيانٍ كهمِك مـن أناسٍ / خِفافٍ في الهُدوِّ وفي الرواحِ
بعثتهمُ عـلى سفرٍ مَهيبٍ / فما ضربوا عليهم بـالقِداحِ
وأعـداءٍ دَلفتُ لهم بجمعٍ / سريع الخطوِ في يوم الصياحِ
وكنَّا معشراً خُلقوا كـراماً / نَرى بذل النفوسِ من السماحِ
دَعـونـا ظالمين فما ثُكلنا / وجِئنا فاقترعـنا بـالصِّفاحِ
وغـاديناهمُ بالخيل شُعثا / نُثير النَّقعَ بـالبلدِ المـراحِ
وفرسانٍ يرون القتل غُنماً / فما لهـمُ لديهِ مـن براحِ
فأي فتيانٍ الذي بعثهم ابن المعتز؟ ثم هل كان في العصر العباسي قِداح تُضرب؟ هذه عادة جاهلية انتهت بمجيء الإسلام، وأي أعداءٍ الذي ذهب إليهم ابن المعتز وهو في ظل الخلافة، ولم يكن زمنهم الغزو الذي كان في الجاهلية، ولو كان لابن المعتز أعداء لشكاهم للخليفة آنذاك مثلاً، فهو لا يستطيع القتال كما يشاء، ولم نسمع كتب التاريخ تتحدث عن ابن المعتز و وقعاته كما تحدث عن كثيرين من أمثال سيف الدولة مثلا.
وهذا يعني أنَّ ابن المعتز قد حاول تقليد الشعر الجاهلي، وزناً ومعنىً ولفظاً؛ لهذا لم يكن ابن المعتز صادقاً كصدق أبي نواس. فابن المعتز كما ذكرت سابقاً قد حاول تقليد معلقة ابن كلثوم حتى في المعنى، برغم اختلاف الظروف والعصور، وهذا ما جعل القصيدة تفتقد إلى عصرها .
3- لقد تميز الشاعر الجاهلي عن العباسي بأسلوبه المشرق، فإذا كان الشاعر العباسي متميزاً بمحسناته اللفظية، فإن الشاعر الجاهلي بشكل عام تميز بعدم المباشرة بالخطاب، ومحاولته إيصال المعنى بطريقة رامزة ، كاستخدام الطلل و المرأة وتسخيرهما في إيصال معناه، كما تم توضيحه سابقاً سواء في شعر زهير أو النابغة. وهذه محطاتٌ بلاغية ليس من السهل الوصول إليها؛ فرسم لوحاتٍ مختلفة تبدو لأول وهلة، وعند تدقيق النظر جيداً إليها تبدو غير مختلفة، وهذا في نظري السحر بعينه. لهذا ظل الشعر الجاهلي مشرقاً على مر العصور.
4- ربما فضل البعض الشعر العباسي لأنه طرق معانٍ جديدة لم يطرقها الشعر الجاهلي، وهذا رأي أرى أن صاحبه وقع في خطأ؛ لأن جميع المواضيع التي طرقها الشعراء هي من واقعهم، فلربما لو عاش الشاعر الجاهلي الحياة العباسية لاستخدم المعاني نفسها التي طرقها الشاعر العباسي، فالمعاني موجودة على قارعة الطريق، ولدى الشاعر الجاهلي أساليبه ووسائله لتحويلها إلى لغة فنية.
بعد كل هذا أستنتجُ مما سبق أن الشعر يجب أن يتحلى بأساليب الشعر وأوزانه ووسائله كاملة غير منقوصةٍ، وأروع الشعر في نظري هو ما كان رامزاً غير مباشر كما هو الشعر الجاهلي ومُجَمَّلاً بألوان البلاغة البديعية والبيان كما هو الشعر العباسي ولكن دون تكلف. وطبعاً حديثي هنا مختصٌ بالشعر العربي؛ لتميزه بلغته العربية الخالدة.
الخاتمة
الحمد لله الذي وهب لنا هذه اللغة عنوانا ًلكل غيورٍ على العروبة ووحدتها، فأنارت لنا الطريق وجمعتنا كما تجمع الأم أبناءها، وقديماً قال الشاعر:
لسان الضاد يجمعنا بغسانٍ و عـدنـانِ
وبعد: فقد أردت من اختياري لدراستي هذه توضيح العديد من الأمور التي اختلطت علينا؛من تطور وتقليد وتغيُرٍٍ حدث على المقدمة الطللية قاصداً بذلك أن أقدم توضيحاً يجعلنا ندرك أين نحن من التطور الآن، وقد قطعنا شوطاً طويلاً برأيي لا نعرف أين نسير فأصبحنا مقلدين غير منتجين،ولا مبدعين؛ مما أدى بنا إلى خسران مكانتنا بين الأمم.
ففي قراءتي للعصر الحالي (التمهيد) بينت العديد من المصطلحات، وتوصلتُ إلى أن ما نحياه اليوم ليس تطوراً بل على العكس تماماً، فنحن نعيش التبعية بشتى أنواعها. وأننا بحاجة إلى ثقافة ثورية خالصة تخرجنا من الظلمات إلى النور، وتوصلت إلى أن العلاقة التي تربطنا بالثقافات الأخرى هي علاقة التقليد ليس إلا. وبينتُ أن هناك بوناً شاسعاً بين التطور الذي جرى في العصر العباسي والذي هو نتاج للتقدم الحضاري، وبين ما نعيشه الآن من تبعية ثقافية مقيتة أوصلتنا إلى التعليم المقلوب.
تحدثتُ بعدها عن المقدمة الطللية لغة واصطلاحاً، ثم انتقلتُ لدراسة المقدمة في العصر الجاهلي، وناقشت مجموعة من الآراء التي فَسَرَتْها، وتوصلتُ عندها إلى أنَّ الرأي الأصوب في تفسير المقدمة الطللية هو رأي ابن قتيبة الذي قال :إن الشاعر الجاهلي كان يتعمد جذب السامع قبل أن يأتي إلى الموضوع الذي يريده حتى يصل لمبتغاه، وبينتُ أن كثيراً من الآراء الحديثة تعتمد نهجاً خاطئاً في تفسيراتها للمقدمة الطللية.
ثم أخذت نموذجين من المقدمة الطللية لشاعرين من العصر الجاهلي هما زهير بن أبي سُلمى والنابغة الذبياني وقمتُ بتحليلهما حيث وصلت إلى أنَّ هناك علاقة وثيقة بين موضوع القصيدة والمقدمة الطللية فيها، وأنَّ حبائلَ الربطِ كانت تلك الوسيلة الفنية التي كان يغزلها الشاعر في مقدمة قصيدته حيث تسير معه في الطول حتى نهاية القصيدة، فتجمِّلها بالوحدة الموضوعية.
وفي حديثي عن الشعوبية ومدى تأثيرها على المقدمة الطللية، استنتجتُ أن الشعوبية لم تكن لتنتصر على المقدمة الطللية لولا حالة الاستقرار والتمدن والنهضة التي عمَّت ذلك العصر في كل جوانبه فوقفتْ سداً منيعاً أمام رياح الشمال والجنوب لتمنعها من أن تعفى الرسوم والأطلال، بل لم تعد حياة البادية والترحال موجودة لكي تتواجد الأطلال.
ولكي تكتمل موازنتي فقد اتخذتُ نموذجين لشاعرين عباسيين هما: أبو نواس وابن المعتز، وتطرقتُ للعديد من الآراء بالنسبة لأبي نواس وحداثته وثورته على المقدمة الطللية، وتوصلتُ إلى أنَّ أبا نواس كان صادقاً في شعره ومباشراً فيه، وأنّ ابن المعتز قد قلَّد الشعراء الجاهليين في قصيدته التي بين أيدينا.
أما عن الموازنة بين العصرين (الجاهلي والعباسي) فقد بينتُ أن الشاعر الجاهلي كان يهتم بالمعنى أكثر من اللفظ، وذلك على العكس من الشاعر العباسي، وأن الشعراء يتأثرون ببيئاتهم، وحاولت قدر استطاعتي أن أعطي كل ذي حقٍ حقه، بعد التعمق في واقع كل عصر.
وفي نهاية بحثي أرجو أن أكون قد وضعتُ يدي على جرح العربية النازف في هذا العصر، واستـنـبتُ دواءً لهذا الداء من أصالتنا وتراثنا وحضارتنا التليدة .
أستمحيكم عذراً إن زلَّ قلمي، ولم يفصح لساني أكثر من ذلك، فالخطب جلل، والعربية تتعرض لمؤامراتٍ لا نهاية لها، والسيوف المشهرة من أجلها تكاد تضعف أمام تيار التبعية الجارف، وأصبح القابض على لغته وتراثه كالقابض على الجمر، وعرين المضرية حُطمتْ أركانه وأصبح مقاماً لذؤبان بني ضلالة، وأخيراً وليس آخراً أقول قول الشاعر:
فهيا يا بني العربِ / إلى العلياء بالعلمِ
وغنوا يا بني أمي / بلاد العربِ أوطاني
والله الموفق
قائمة المصادر والمراجع
*-الأصفهاني. أبو الفرج: الأغاني،التونسية للنشر، تونس، المجلد الرابع،1983 .
*-التبريزي. يحيى بن علي: شرح المعلقات العشر، دار الآفاق، بيروت، ط8،1980 .
*-الجُمحي. ابن سلام: طبقات فحول الشعراء، دار المعارف، القاهرة، 1952 .
*-د.خليف. مي يوسف: الموقف النفسي عند شعراء المعلقات، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة .
*- السيوطي. عبد الرحمن: نزهة الجلساء في أشعار النساء، مكتبة القرآن، القاهرة، ط1 .
*- د. ضيف. شوقي: العصر العباسي الأول، دار المعارف، القاهرة،ط8 .
*- د. عبد المطلب. محمد: قراءة ثانية في شعر امرئ القيس، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط1، 1996 .
*- العسكري. أبو هلال: الأوائل، دار العلوم، الرياض،1980 .
*- د. عطوي. فوزي: ديوان النابغة الذبياني، الشركة اللبنانية للكتاب،بيروت، 1969.
*- الفراهيدي. الخليل بن أحمد: معجم العين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2001
*- ابن قتيبة. عبدالله بن مسلم: الشعر والشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985
*- ابن المعتز: ديوان ابن المعتز، دار صادر، بيروت.
*- ابن منظور. جمال الدين محمد: لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط3، 1994 .
*- د.النعيمي. أحمد إسماعيل: الأسطورة في الشعر العربي قبل الإسلام، سينا للنشر، القاهرة، ط1، 1995 .
*-د.هيكل. احمد: الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوطه، دار المعارف، مصر، ط7 ، 1979.